فصل: (5) لَا تُعْطَى الزَّكَاةُ لِلْمُرْتَدِّينَ، وَلَا لِلْمَلَاحِدَةِ وَالْإِبَاحِيِّينَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.(5) لَا تُعْطَى الزَّكَاةُ لِلْمُرْتَدِّينَ، وَلَا لِلْمَلَاحِدَةِ وَالْإِبَاحِيِّينَ:

مِنَ الْمَعْلُومِ بِالِاخْتِبَارِ أَنَّهُ قَدْ كَثُرَ الْإِلْحَادُ وَالزَّنْدَقَةُ فِي الْأَمْصَارِ الَّتِي أَفْسَدَ التَّفَرْنُجُ تَرْبِيَتَهَا الْإِسْلَامِيَّةَ وَتَعْلِيمَ مَدَارِسِهَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ شَرٌّ مِنَ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى شَيْئًا مِنَ الزَّكَاةِ، وَلَا مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ غَيْرُ الْحَرْبِيِّ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ دُونَ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ.
وَالْمَلَاحِدَةُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَمْصَارِ أَصْنَافٌ (مِنْهُمْ) مَنْ يُجَاهِرُ بِالْكُفْرِ بِاللهِ إِمَّا بِالتَّعْطِيلِ وَإِنْكَارِ وُجُودِ الْخَالِقِ، وَإِمَّا بِالشِّرْكِ بِعِبَادَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَاهِرُ بِإِنْكَارِ الْوَحْيِ وَبَعْثَةِ الرُّسُلِ، أَوْ بِالطَّعْنِ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ فِي الْقُرْآنِ أَوْ فِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ بِمَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَحِلُّ شُرْبَ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَتَرْكَ الصَّلَاةِ وَغَيْرَهَا مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ فَلَا يُصَلِّي وَلَا يُزَكِّي وَلَا يَصُومُ وَلَا يَحُجُّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ، وَهَؤُلَاءِ لَا اعْتِدَادَ بِإِسْلَامِهِمُ الْجُغْرَافِيِّ، فَلَا يَجُوزُ إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ لِأَحَدٍ مِمَّنْ ذُكِرَ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُزَكِّي أَنْ يَتَحَرَّى بِزَكَاتِهِ مَنْ يَثِقُ بِصِحَّةِ عَقِيدَتِهِمُ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَإِذْعَانِهِمْ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْقَطْعِيَّيْنِ فِي الدِّينِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَؤُلَاءِ عَدَمُ اقْتِرَافِ شَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ يُذْنِبُ وَلَكِنَّهُ يَتُوبُ. وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ وَلَا بِبِدْعَةٍ عَمَلِيَّةٍ أَوِ اعْتِقَادِيَّةٍ هُوَ فِيهَا مُتَأَوِّلٌ لَا جَاحِدٌ لِلنَّصِّ. وَأَنَّ الْفَرْقَ عَظِيمٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِ الْمُذْعِنِ لِأَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ إِذَا أَذْنَبَ، وَالْمُسْتَحِلِّ لِتَرْكِ الْفَرَائِضِ وَاقْتِرَافِ الْفَوَاحِشِ فَهُوَ يُصِرُّ عَلَيْهِمَا بِدُونِ شُعُورٍ مَا بِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ مِنَ اللهِ بِشَيْءٍ، وَلَا بِأَنَّهُ قَدْ عَصَاهُ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ إِلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرَهُ.
وَلَا يَنْبَغِي إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ لِمَنْ يَشُكِّكُ الْمُسْلِمَ فِي إِسْلَامِهِ. وَمَا أَدْرِي مَا يَقُولُ فِيمَنْ يَرَاهُمْ بِعَيْنِهِ فِي الْمَقَاهِي وَالْحَانَاتِ وَالْمَلَاهِي يُدَخِّنُونَ أَوْ يَسْكَرُونَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ حَتَّى فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَرُبَّمَا كَانَ الْمَلْهَى تُجَاهَ مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ الْجُمُعَةِ؟ هَلْ يُعَدُّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُذْنِبِينَ؟ أَمْ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ الْإِبَاحِيِّينَ؟ مَهْمَا يَكُنْ ظَنُّهُ فِيهِمْ فَلَا يُعْطِهِمْ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ شَيْئًا، بَلْ يَتَحَرَّى بِهَا مَنْ يَثِقُ بِدِينِهِ وَصَلَاحِهِ، إِلَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّ فِي إِعْطَاءِ الْفَاسِقِ اسْتِصْلَاحًا لَهُ فَيَكُونُ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ.

.(6) الْتِزَامُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ كَافٍ لِإِعَادَةِ مَجْدِ الْإِسْلَامِ:

الْمَالُ قِوَامُ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْمِلِّيَّةِ أَوْ مِلَاكُهَا وَقِيَامُ نِظَامِهَا كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا} (4: 5) إِنَّ الْإِسْلَامَ يَمْتَازُ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَالشَّرَائِعِ بِفَرْضِ الزَّكَاةِ فِيهِ، كَمَا يَعْتَرِفُ لَهُ بِهَذَا حُكَمَاءُ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَعُقَلَاؤُهَا، وَلَوْ أَقَامَ الْمُسْلِمُونَ هَذَا الرُّكْنَ مِنْ دِينِهِمْ لَمَا وُجِدَ فِيهِمْ- بَعْدَ أَنْ كَثَّرَهُمُ اللهُ، وَوَسَّعَ عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ- فَقِيرٌ مُدْقِعٌ، وَلَا ذُو غُرْمٍ مُفْجِعٌ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ تَرَكُوا هَذِهِ الْفَرِيضَةَ فَجَنَوْا عَلَى دِينِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ فَصَارُوا أَسْوَأَ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ حَالًا فِي مَصَالِحِهِمُ الْمِلِّيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، حَتَّى فَقَدُوا مُلْكَهُمْ وَعِزَّهُمْ وَشَرَفَهُمُ النَّصْرَانِيَّةَ، وَصَارُوا عَالَةً عَلَى أَهْلِ الْمِلَلِ الْأُخْرَى حَتَّى فِي تَرْبِيَةِ أَبْنَائِهِمْ وَبَنَاتِهِمْ، فَهُمْ يَلْقَوْنَهُمْ فِي مَدَارِسِ دُعَاةٍ أَوْ دُعَاةِ الْإِلْحَادِ فَيُفْسِدُونَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَيَقْطَعُونَ رَوَابِطَهُمُ الْمِلِّيَّةَ وَالْجِنْسِيَّةَ، وَيُعِدُّونَهُمْ لِيَكُونُوا عَبِيدًا أَذِلَّةً لِلْأَجَانِبِ عَنْهُمْ. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: لِمَاذَا لَا تُؤَسِّسُونَ لِأَنْفُسِكُمْ مَدَارِسَ كَمَدَارِسِ هَؤُلَاءِ الرُّهْبَانِ وَالْمُبَشِّرِينَ؟ أَوِ الْمَلَاحِدَةِ الْإِبَاحِيِّينَ؟ قَالُوا: إِنَّنَا لَا نَجِدُ مِنَ الْمَالِ مَا يَقُومُ بِذَلِكَ. وَإِنَّمَا الْحَقُّ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مِنَ الدِّينِ وَالْعَقْلِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ وَالْغَيْرَةِ مَا يُمَكِّنُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَهُمْ يَرَوْنَ أَبْنَاءَ الْمِلَلِ الْأُخْرَى يَبْذُلُونَ لِلْمَدَارِسِ وَلِلْجَمْعِيَّاتِ الْخَيْرِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ مَالًا لَمْ يُوجِبْهُ عَلَيْهِمْ دِينُهُمْ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَتْهُ عَلَيْهِمْ عُقُولُهُمْ وَغَيْرَتُهُمُ الْمِلِّيَّةُ وَالْقَوْمِيَّةُ وَلَا يَغَارُونَ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونُوا عَالَةً عَلَيْهِمْ. تَرَكُوا دِينَهُمْ، فَضَاعَتْ لَهُ دُنْيَاهُمْ {نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (59: 19).
فَالْوَاجِبُ عَلَى دُعَاةِ الْإِصْلَاحِ فِيهِمْ أَنْ يَبْدَءُوا بِإِصْلَاحِ مَنْ بَقِيَ فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنَ الدِّينِ وَالشَّرَفِ بِتَأْلِيفِ جَمْعِيَّةٍ لِتَنْظِيمِ جَمْعِ الزَّكَاةِ مِنْهُمْ، وَصَرْفِهَا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَصَالِحِ الْمُرْتَبِطِينَ بِهَذِهِ الْجَمْعِيَّةِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَيَجِبُ أَنْ يُرَاعَى فِي نِظَامِ هَذِهِ الْجَمْعِيَّةِ أَنَّ لِسَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مَصْرَفًا فِي مُقَاوَمَةِ الرِّدَّةِ وَالْإِلْحَادِ، وَأَنَّ لِسَهْمِ فَكِّ الرِّقَابِ مَصْرَفًا فِي تَحْرِيرِ الشُّعُوبِ الْمُسْتَعْمَرَةِ مِنَ الِاسْتِعْبَادِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَصْرَفُ تَحْرِيرِ الْأَفْرَادِ، وَأَنَّ لِسَهْمِ سَبِيلِ اللهِ مَصْرَفًا فِي السَّعْيِ لِإِعَادَةِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَهَمُّ مِنَ الْجِهَادِ لِحِفْظِهِ فِي حَالِ وُجُودِهِ مِنْ عُدْوَانِ الْكَفَّارِ، وَمَصْرَفًا آخَرَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَالدِّفَاعِ عَنْهُ بِالْأَلْسِنَةِ وَالْأَقْلَامِ، إِذَا تَعَذَّرَ الدِّفَاعُ عَنْهُ بِالسُّيُوفِ وَالْأَسِنَّةِ وَبِأَلْسِنَةِ النِّيرَانِ.
أَلَا إِنَّ إِيتَاءَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَكْثَرِهِمْ لِلزَّكَاةِ وَصَرْفَهَا بِالنِّظَامِ، كَافٍ لِإِعَادَةِ مَجْدِ الْإِسْلَامِ، بَلْ لِإِعَادَةِ مَا سَلَبَهُ الْأَجَانِبُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْقَاذِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ رِقِّ الْكُفَّارِ، وَمَا هِيَ إِلَّا بَذْلُ الْعُشْرِ أَوْ رُبْعِ الْعُشْرِ مِمَّا فَضَلَ عَنْ حَاجَةِ الْأَغْنِيَاءِ. وَإِنَّنَا نَرَى الشُّعُوبَ الَّتِي سَادَتِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا سَادَتَهُمْ يَبْذُلُونَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ أُمَّتِهِمْ وَهُوَ غَيْرُ مَفْرُوضٍ عَلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ.
وَقَدْ كَثُرَ تَسَاؤُلُ أَذْكِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ إِحْيَاءِ فَرِيضَةِ الزَّكَاةِ، وَقَوِيَ اسْتِعْدَادُ أَهْلِ الْغَيْرَةِ لِلْقِيَامِ بِهِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَكَادَ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ يَسْتَغِلُّونَ هَذَا الِاسْتِعْدَادَ لِمَنَافِعِهِمْ، فَهَلْ نَجِدُ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مَنْ يَنْهَضُ بِهِ نَهْضَةً تَكُونُ أَهْلًا لِأَنْ يَثِقُ بِهَا الْعَالَمُ الْإِسْلَامِيُّ وَيُعَزِّزُهَا، قَبْلَ أَنْ يَقْطَعَ عَلَيْهِمُ الْمُنَافِقُونَ وَالْأَعْدَاءُ طَرِيقَهَا؟.
طَالَمَا طَالَبْنَا الْعُقَلَاءَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى هَذَا الْعَمَلِ الْجَلِيلِ، وَمَا زِلْنَا نُسَوِّفُ انْتِظَارًا لِلْأَنْصَارِ الَّذِينَ أَشَرْنَا إِلَى صِفَتِهِمْ، وَقَدِ اضْطُرِرْنَا إِلَى التَّصْرِيحِ بِالِاقْتِرَاحِ هُنَا قَبْلَ الْعُثُورِ عَلَيْهِمْ. وَسَنَعُودُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى إِلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ الزَّكَاةِ وَحِكَمِهَا وَأَحْكَامِهَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (103) فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} هذه الآية اعتراض بين جملة: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} [التوبة: 58] وجملة {ومنهم الذين يؤذون النبي} [التوبة: 61] الآية.
وهو استطراد نشأ عن ذكر اللمز في الصدقات أدمج فيه تبيين مصارف الصدقات.
والمقصود من أداة الحصر: أن ليس شيء من الصدقات بمستحقّ للذين لَمَزوا في الصدقات، وحَصْر الصدقات في كونها مستحقّة للأصناف المذكورة في هذه الآية، فهو قصر إضافي أي الصدقات لهؤلاء لا لكم.
وأمّا انحصارها في الأصناف الثمانية دون صنف آخر فيستفاد من الاقتصار عليها في مقام البيان إذ لا تكون صيغة القصر مستعملة للحقيقي والإضافي معًا إلاّ على طريقة استعمال المشترك في معنييه.
والفقير صفة مشبّهة أي المتّصف بالفقر وهو عدم امتلاك ما به كفاية لوازم الإنسان في عيشه، وضدّه الغني.
وقد تقدّم عند قوله تعالى: {إن يكن غنيًا أو فقيرًا فالله أولى بهما} في سورة النساء (135).
والمسكين ذو المسكنة، وهي المذلّة التي تحصل بسبب الفقر، ولا شكّ أنّ ذكر أحدهما يغني عن ذكر الآخر، وإنّما النظر فيما إذا جُمع ذكرهما في كلام واحد؛ فقيل: هو من قبيل التأكيد، ونسب إلى أبي يوسف ومحمد بن الحسن وأبي علي الجبائي، وقيل: يراد بكلّ من الكلمتين معنى غير المراد من الأخرى، واختلف في تفسير ذلك على أقوال كثيرة: الأوضح منها أن يكون المراد بالفقير المحتاج احتياجًا لا يبلغ بصاحبه إلى الضراعة والمذلّة.
والمسكين المحتاج احتياجًا يُلجئه إلى الضراعة والمذلّة، ونسب هذا إلى مالك، وأبي حنيفة، وابن عباس، والزهري، وابن السكّيت، ويونسَ بن حبيب؛ فالمسكين أشدّ حاجة لأنّ الضراعة تكون عند ضعف الصبر عن تحمّل ألم الخصاصة، والأكثرُ إنمّا يكون ذلك من شدّة الحاجة على نفس المحتاج.
وقد تقدّم الكلام عليهما عند قوله تعالى: {وبذي القربى واليتامى والمساكين} في سورة النساء (36).
{والعاملين عليها} معناه العاملون لأجلها، أي لأجل الصدقات فحرف (على) للتعليل كما في قوله: {ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185] أي لأجل هدايته إيّاكم.
ومعنى العمل السعي والخدمة وهؤلاء هم الساعون على الأحياء لجمع زكاة الماشية واختيار حرف (على) في هذا المقام لما يشعر به أصل معناه من التمكّن، أي العاملين لأجلها عملًا قويًا لأنّ السعاة يتجشّمون مشقّةً وعملًا عظيمًا، ولعلّ الإشعار بذلك لقصد الإيمان إلى أنّ علّة استحقاقهم مركّبة من أمرين: كون عملهم لفائدة الصدقة، وكونه شاقًّا، ويجوز أن تكون (على) دالَّة على الاستعلاء المجازي، وهو استعلاء التصرف كما يقال: هو عامل على المدينة، أي العاملين للنبيء أو للخليفة على الصدقات أي متمكّنين من العمل فيها.
وممّن كان على الصدقة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حَمَل بن مالك بن النابغة الهذلي كان على صدقات هُذيل.
{والمؤلفة قلوبهم} هم الذين تؤلّف، أي تُؤنَّس نفوسهم للإسلام من الذين دخلوا في الإسلام بحدثان عهدٍ، أو من الذين يرغَّبون في الدخول في الإسلام، لأنّهم قاربوا أن يُسلموا.
والتأليف: إيجاد الألفة وهي التأنّس.
فالقلوب بمعنى النفوس.
وإطلاق القلب على ما به إدراك الاعتقاد شائع في العربية.
وللمؤلّفة قلوبهم أحوال: فمنهم من كان حديثَ عهد بالإسلام، وعرف ضعف حينئذٍ في إسلامه، مثل: أبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، من مسلمة الفتح؛ ومنهم من هم كفار أشدّاء، مثل: عامر بن الطفيل، ومنهم من هم كفار، وظهر منهم ميل إلى الإسلام، مثل: صفوان بن أمية.
فمثل هؤلاء أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم من أموال الصدقات وغيرها يتألفهم على الإسلام، وقد بلغ عدد من عدّهم ابن العربي في الأحكام من المؤلفة قلوبهم: تسعة وثلاثين رجلًا، قال ابن العربي: وعدّ منهم أبُو إسحاق يعني القاضي إسماعيل بن إسحاق معاويةَ بن أبي سفيان، ولم يكن منهم وكيف يكون ذلك، وقد ائتمنه النبي صلى الله عليه وسلم على وحي الله وقرآنه وخلطه بنفسه.
و{الرقاب} العبيد جمع رقَبة وتطلق على العبد.
قال تعالى: {فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء: 92].
و{في} للظرفية المجازية وهي مغنية عن تقدير فكّ الرقاب لأنّ الظرفية جَعلت الرقاب كأنّها وُضعت الأموالُ في جماعتها، ولم يجرّ باللاّم لئلا يتوهّم أنّ الرقاب تدفع إليهم أموال الصدقات، ولكن تُبذل تلك الأموال في عتق الرقاب بشراء أو إعانة على نجوم كتابة، أو فداءِ أسرى مسلمين، لأنّ الأسرى عبيد لمن أسَّروهم، وقد مضى في سورة البقرة (177) قوله: {والسائلين وفي الرقاب والغارمين} المدينون الذين ضاقت أموالهم عن أداء ما عليهم من الديون، بحيث يُرْزأ دائنوهم شيئًا من أموالهم، أو يُرْزأ المدينون ما بقي لهم من مَال لإقامة أود الحياة، فيكون من صرف أموالٍ من الصدقات في ذلك رحمةٌ للدائن والمدين.
و{سبيل الله} الجهاد، أي يصرف من أموال الصدقات ما تقام به وسائل الجهاد من آلات وحراسة في الثغور، كلّ ذلك برًّا وبحرًا.
و{ابن السبيل} الغريب بغَير قومه، أضيف إلى {السبيل} بمعنى الطريق: لأنّه أولده الطريق الذي أتى به، ولم يكن مولودًا في القوم، فلهذا المعنى أطلق عليه لفظ ابن السبيل.
ولفقهاء الأمّة في الأحكام المستمدّة من هذه الآية طرائق جمّة، وأفهام مهمّة، ينبغي أن نلمّ بالمشهور منها بما لا يفضي بنا إلى الإطالة، وإنّ معانيَها لأوفرُ ممّا تفي به المقالة.